الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الحكمة في اللّغة: العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود والعمل بمقتضاها، وهي إذا أضيفت إلى اللّه يراد بها العلم بالأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، وإذا أضيفت إلى الإنسان يراد بها معرفة الحقّ، وفعل الخيرات. وتطلق على العلم، والفقه، ورد في الأثر الصّحيح: «لا حسد إلاّ في اثنتين: رجل آتاه اللّه مالاً فسلّطه على هلكته في الحقّ، ورجل آتاه اللّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها». وجاءت الحكمة في القرآن بمعنى النّبوّة، قال تعالى: في معرض الامتنان على نبيّه داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}
2 - الحكمة عند الأصوليّين ما يترتّب على ربط الحكم بعلّته، أو بسببه من جلب مصلحة أو دفع مضرّة، أو تقليلها، وتطلق أيضاً على الوصف المناسب لشرع الحكم.
أ - السّبب: 3 - السّبب هو الوصف الظّاهر المنضبط المعرّف للحكم. ب - المانع: 4 - المانع هو ما يلزم من وجوده عدم السّبب أو الحكم، ولا يلزم من وجوده الوجود. والتّفصيل في الملحق الأصوليّ.
يتّضح الحكم الإجماليّ للحكمة من المقارنة بينها وبين العلّة. فالفرق بين الحكمة والعلّة أنّ العلّة هي الوصف الّذي جعله الشّارع مناطاً لثبوت الحكم حيث ربط الشّارع به الحكم وجوداً وعدماً على أنّه مظنّة لتحقيق المصلحة المقصودة للشّارع من شرع الحكم. أمّا الحكمة، فهي المصلحة نفسها، لذلك قد تتفاوت درجاتها في الانضباط، وقد تخفى فلا تكون معلومةً لنا أصلاً. لهذا اختلف الأصوليّون في جواز (ربط الحكم) بالحكمة، فقال بعضهم: إذا وجدت الحكمة ظاهرةً منضبطةً جاز ربط الحكم بها لعدم المانع لأنّها المناسب المؤثّر حقيقةً. وذهب البعض إلى أنّه لا يجوز ربط الحكم بها، وإن كانت ظاهرةً منضبطةً، وينظر مصطلح (تعبّديّ)، والتّفصيل في الملحق الأصوليّ.
1 - الحكومة في اللّغة: مصدر الثّلاثيّ (حكم) واسم مصدر من (غير الثّلاثيّ)، ومن معانيها ردّ الظّالم عن الظّلم قال الأزهريّ في تعليقه على حديث: «في أرش الجراحات الحكومة». معنى الحكومة في أرش الجراحات الّتي ليس فيها دية معلومة أن يجرح الإنسان في بدنه ممّا يبقى شينه ولا يبطل العضو فيقتاس (يقدّر) الحاكم أرشه. ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللّغويّ، فقد أطلقوه على الواجب الّذي يقدّره عدل في جناية ليس فيها مقدار معيّن من المال. قال ابن عاشر: اتّفقت الأنقال على أنّ المراد بالحكومة الاجتهاد وإعمال الفكر فيما يستحقّه المجنيّ عليه من الجاني. وسبب التّسمية أنّ استقرار الحكومة يتوقّف على حكم حاكم أو محكّم معتبر، ومن ثمّ لو اجتهد فيه غيره لم يكن له أثر. قال ابن عرفة: ألفاظ المدوّنة يأتي فيها تارةً لفظ الحكومة، وتارةً لفظ الاجتهاد فيحتمل أن يكونا مترادفين.
أ - الأرش: 2 - الأرش هو المال الواجب في الجناية على ما دون النّفس، وقد يطلق على بدل النّفس وهو الدّية. والأرش أعمّ من حكومة العدل لأنّه يشمل الواجب في جناية جاء فيها نصّ بسهم معيّن، والواجب في جناية ليس فيها نصّ مقدّر من الشّارع، فحكومة العدل هي نوع من الأرش. ب - الدّية: 3 - الدّية: هي بدل النّفس لسقوط القصاص بأسبابه، وقد يسمّى أرش ما دون النّفس بالدّية. والفرق بين الدّية وحكومة العدل، أنّ الدّية تجب في الغالب بالجناية على النّفس، أمّا حكومة العدل فتجب بالاعتداء على ما دون النّفس، كما أنّ الدّية مقدّرة شرعاً، وحكومة العدل غير مقدّرة في الشّرع ويترك أمر تقديرها للحاكم.
ما يجب فيه حكومة العدل: 4 - الأصل أنّ ما لا قصاص فيه من الجنايات على ما دون النّفس وليس له أرش مقدّر بنصّ أو قياس ففيه الحكومة، لأنّ الأصل في الجناية الواردة على محلّ معصوم اعتبارها بإيجاب الجابر أو الزّاجر ما أمكن. قال الزّيلعيّ عند الاستدلال على وجوب حكومة العدل في الجنايات الّتي ليس فيها مقدار معيّن من المال: لأنّ هذه (الجنايات) ليس فيها أرش مقدّر من جهة الشّرع ولا يمكن إهدارها فتجب فيها حكومة العدل وهو مأثور عن إبراهيم النّخعيّ وعمر بن عبد العزيز. هذا وقد أخرج الشّافعيّة من الحكومة ما عرفت نسبة أرشه إلى أرش مقدّر في الشّرع كأن كان بقربه موضحة، أو جائفة فعندئذ وجب الأكثر من قسطه والحكومة. ويخرج من الحكومة ما كان في معنى الجرح الّذي فيه أرش مقدّر مقيسًا عليه كالأليتين والثّديين والحاجبين. وللتّفصيل في الجنايات الّتي تجب فيها حكومة العدل (ر: جناية على ما دون النّفس).
5 - لم يذكر الفقهاء شروطاً محدودةً لوجوب حكومة العدل إلاّ أنّه أمكن بتتبّع عباراتهم استخلاص الشّروط الآتية: أ - ألاّ يكون للجناية أرش مقدّر: 6 - يشترط ألاّ يكون للجناية المراد تقديرها أرش مقدّر من قبل الشّارع بناءً عليه لا يجوز الاجتهاد في تقدير أرش شجّة، أو جراحة، أو إزالة منفعة عضو لها أرش مقدّر في الشّرع. ب - ألاّ تبلغ الحكومة أرش العضو: 7 - الحكومة الّتي تجب في جرح أصاب عضواً له أرش مقدّر كاليد والرّجل لا يبلغ بها ذلك الأرش المقدّر، وهو قول أكثر أهل العلم. وعلّة ذلك ألاّ تكون الجناية على العضو مع بقائه مضمونةً بما يضمن به العضو نفسه. قال النّوويّ: إن كانت الجناية على عضو له أرش مقدّر نظر: إن لم تبلغ الحكومة أرش ذلك العضو وجبت بكمالها، وإن بلغته نقص الحاكم شيئًا منه بالاجتهاد. وبهذا يقول القاضي من الحنابلة. بناءً على هذا أنّ حكومة الأنملة العليا يجرحها، أو يقلع ظفرها ينقص عن أرش الأنملة. والجناية على الأصبع وعلى الرّأس لا تبلغ حكومتها أرش الموضحة، وعلى البطن لا تبلغ أرش الجائفة، وحكومة جرح الكفّ لا تبلغ دية الأصابع الخمس، وكذا حكومة قطع الكفّ الّتي لا أصبع عليها وكذا حكم القدم. أمّا إذا كانت الجراحة على عضو ليس له أرش مقدّر كالظّهر والكتف والفخذ فيجوز أن تبلغ حكومتها دية عضو مقدّر كاليد والرّجل وأن تزيد عليه وإنّما تنقص عن دية النّفس. ج - أن يكون التّقويم بعد اندمال الجرح: 8 - يشترط أن يقوّم المجنيّ عليه لمعرفة الحكومة بعد اندمال الجرح وبرئه لا قبله، لأنّ الجرح قد يسري إلى النّفس أو إلى ما يكون واجبه مقدّراً، فيكون ذلك هو الواجب لا الحكومة. وصرّح الحنفيّة والحنابلة بأنّه يشترط أن يقوّم بتقدير أرش الجراحة ذوا عدل من أهل الخبرة لأنّه يفتقر إلى فرض الحرّ رقيقًا بصفاته، وتعتبر قيمته، ثمّ ينظر لمقدار النّقص ويؤخذ بنسبته من الدّية، وهذا إنّما يستقرّ بعد معرفة القيمة من المقوّمين. قال الكاسانيّ عند الكلام عن طريقة الكرخيّ لتقدير حكومة العدل: تقرّب هذه الجناية إلى أقرب جناية لها أرش مقدّر فينظر ذوا عدل من أطبّاء الجراحات كم مقدار هذه هاهنا في قلّة الجراحات وكثرتها بالحزر والظّنّ فيأخذ القاضي بقولهما، ويحكم من الأرش بمقداره من أرش الجراحة المقدّرة. د - أن يحكم القاضي أو المحكّم بالحكومة: 9 - يشترط أن يحكم بالحكومة القاضي أو المحكّم بشرطه - وهو كونه مجتهداً أو مقلّداً عند الضّرورة - بناءً على تقدير ذوي عدل من أطبّاء الجراحات، حتّى لو وقعت الحكومة باجتهاد غير القاضي أو المحكّم لم تعتبر.
10 - يرى جمهور الفقهاء أنّه لا بدّ لمعرفة حكومة العدل أن يتمّ تقويم المجنيّ عليه بتقويم العبيد كما في تقويم سائر المتلفات، فيقوّم المجنيّ عليه بصفاته الّتي هو عليها لو كان عبدًا وينظر كم نقصت الجناية من قيمته، فإن قوّم بعشرة دون الجناية وبتسعة بعد الجناية فالتّفاوت العشر فيجب له على الجاني عشر دية النّفس. وذهب الشّافعيّة في قول والكرخيّ من الحنفيّة إلى تقريب هذه الجناية إلى أقرب الجنايات الّتي لها أرش مقدّر، فينظر ذوا عدل من أطبّاء الجراحات كم مقدار هذه هاهنا في قلّة الجراحات وكثرتها بالحزر والظّنّ، فيأخذ القاضي بقولهما ويحكم من الأرش بمقداره من أرش الجراحة المقدّرة. واستدلّ لهذه الطّريقة بالأثر المنقول عن عليّ رضي الله عنه وهو ما روي أنّ رجلاً قطع طرف لسانه في زمن عليّ رضي الله عنه فأمره أن يقرأ (ألف، ب، ت، ث.) فكلّما قرأ حرفاً أسقط من الدّية بقدر ذلك وما لم يقرأه أوجب الدّية بحساب ذلك. فإنّه اعتبر حكومة العدل في الّذي قطع طرف لسانه بهذا الاعتبار ولم يعتبر بالعبيد. ونقل عن عمر بن عبد العزيز ومجاهد مثل ذلك. ونقل الحصكفيّ عن الخلاصة: إنّما يستقيم قول الكرخيّ لو كانت الجناية في وجه ورأس فحينئذ يفتى به، ولو في غيرهما أو تعسّر على المفتي يفتي بقول الطّحاويّ - وهو قول الجمهور - مطلقاً لأنّه أيسر. وقال الصّدر الشّهيد: ينظر المفتي في هذا، إن أمكنه الفتوى بالثّاني - وهو قول الكرخيّ - بأن كانت الجناية في الرّأس والوجه يفتي بالثّاني. وإن لم يتيسّر عليه ذلك يفتي بالقول الأوّل - وهو قول الجمهور - لأنّه أيسر. وكان المرغينانيّ يفتي به. ومحلّ الخلاف بين الفريقين إذا كانت الجناية على عضو له أرش مقدّر فإن كانت على الصّدر أو الفخذ أو نحو ذلك ممّا لا مقدّر فيه اعتبرت الحكومة من دية النّفس قطعاً. وذكر بعض الحنفيّة قولاً ثالثاً في كيفيّة تقدير الحكومة، فقد قال في المحيط: والأصحّ أنّه ينظر كم مقدار هذه الشّجّة من أقلّ شجّة لها أرش مقدّر، فإن كان مقداره مثل نصف شجّة لها أرش، أو ثلثها، وجب نصف أو ثلث أرش تلك الشّجّة، وإن كان ربعًا فربع. ويرى الشّرنبلاليّ أنّ هذا القول ليس قولاً ثالثاً، والأشبه أن يكون هذا تفسيرًا لقول الكرخيّ. وقيل: تقدّر الجناية بمقدار ما يحتاج إليه المجنيّ عليه من النّفقة وأجرة الطّبيب إلى أن يبرأ، وبهذا قال الفقهاء السّبعة. قال القهستانيّ: هذا كلّه إذا بقي للجراحة أثر وإلاّ فعندهما لا شيء عليه، وعند محمّد يلزمه قدر ما أنفق إلى أن يبرأ، وعن أبي يوسف حكومة العدل في الألم. ويرى جمهور المالكيّة أنّ ما برئ من الجراحات على غير شين - ممّا دون الموضحة ممّا لم يقدّر فيه الشّارع شيئاً - فإنّه لا شيء فيه على الجاني من عقل وتعزير وأجرة طبيب. واستحسن ابن عرفة - فيما إذا لم يكن في الجرح شيء مقدّر - القول بأنّ على الجاني أجرة الطّبيب وثمن الدّواء سواء أبرئ على شين أم لا مع الحكومة في الأوّل. أمّا ما قدّر الشّارع فيه شيئًا فالواجب المقدّر، برئ على شين أم لا. إلاّ موضحة الوجه والرّأس فإنّها إذا برئت على شين فقد اختلفوا في الواجب فيها على ثلاثة اتّجاهات: الأوّل: دفع ديتها وما حصل بالشّين، وهذا هو المشهور عند المالكيّة. الثّاني: دفع ديتها ولا يزاد عليها مطلقًا، وهذا ما يقول به أشهب، وهو مقابل المشهور. الثّالث: الزّيادة على الدّية إذا كان أمراً منكراً، أمّا إذا كان شيئاً يسيراً فلا يزاد عليها. وهذا ما رواه نافع عن مالك.
1 - الحلال لغةً: نقيض الحرام ومثله الحلّ والحلال والحليل، وهو من حلّ يحلّ حلّاً. ويتعدّى بالهمز والتّضعيف فيقال أحلّه اللّه وحلّله. كما يقال هذا لك حلّ وحلال، ويقال لضدّه حرم وحرام أي محرّم. والحلال اصطلاحاً: هو الجائز المأذون به شرعاً. وبهذا يشمل المندوب والمباح والمكروه مطلقاً عند الجمهور، وتنزيهاً عند الحنفيّة، من حيث جواز الإتيان بها وعدم امتناعه شرعاً، مع رجحان الفعل في المندوب، وتساوي الفعل والتّرك في المباح، ورجحان التّرك في المكروه. والحلال متضمّن في الواجب من حيث إنّ الواجب مركّب من جواز الفعل بمعنى رفع الحرج مع المنع من التّرك، فاللّفظ الدّالّ على الوجوب يدلّ تضمّناً على الجواز. فيكون الحلال في مقابلة الحرام من حيث الإذن في الأوّل وعدم امتناعه شرعاً، وعدم الإذن في الحرام وامتناعه شرعاً. والوجوب متعلّق بالحلال من حيث الجملة، لأنّ المكلّف مأمور شرعاً بالتزام ما أحلّ اللّه ومجانبة ما حرّمه في شأنه كلّه. وقد يطلق الفرض ويراد به الحلّ لغةً، ومنه قوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي أحلّ له. وممّا فرّق به الحنفيّة بين المكروه تنزيهًا والمكروه تحريماً، أنّ الأوّل ما كان للحلّ أقرب، والثّاني ما كان إلى الحرام أقرب، أو ما ثبت تحريمه بدليل ظنّيّ.
يتعلّق بمصطلح حلال جملة من المسائل الأصوليّة:
2 - وهذه المسألة ممّا اختلف فيه: فمختار أكثر الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الأصل الحلّ، وعند بعض الحنفيّة أنّ الأصل التّوقّف، وينسب لأبي حنيفة، وهو قول بعض أصحاب الحديث أنّ الأصل الحرمة. وسبب اختلافهم هو اختلافهم في حدّ الحلال: فعند الشّافعيّ ما لا دليل على تحريمه، وعند أبي حنيفة ما دلّ دليل على حلّه. دليل قول الجمهور: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً}. ومن الأحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أحلّ اللّه في كتابه فهو حلال وما حرّم فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من اللّه عافيته فإنّ اللّه لم يكن نسيّاً». وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها وحرّم حرمات فلا تنتهكوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها». ودليل قول بعض أصحاب الحديث وما نسب لأبي حنيفة أن التّصرّف في ملك الغير بغير إذنه لا يجوز، فيبقى الأصل على الحرمة حتّى يرد دليل الحلّ. ودليل من قال بالتّوقّف أنّ طريق ثبوت الأحكام سمعيّ وعقليّ، والأوّل غير موجود، وكذا الثّاني، فلا يقطع بأحد الحكمين وهذا يوجب التّوقّف. ويظهر أثر الخلاف في الكثير من الفروع الفقهيّة منها: الحيوان المشكل أمره كالزّرافة، والنّبات المجهول تسميته، ومنها ما إذا لم يعرف حال النّهر هل هو مباح أو مملوك، ومنها ما لو دخل برجه حمام وشكّ هل هو مباح أو مملوك. وكذلك لو شكّ في كبر الضّبّة من الذّهب أو الفضّة. ويراجع تفصيل هذه الفروع في مصطلحي (أطعمة، وآنية).
3 - خصّ الشّافعيّة الحلال في هذه القاعدة بالمباح، أمّا الحنفيّة فهو عندهم شامل للمباح والواجب. وعند الشّافعيّة لو اختلط الواجب بالمحرّم روعي مقتضى الواجب ومن أمثلته عندهم اختلاط موتى المسلمين بالكفّار يجب غسل الجميع والصّلاة عليهم، وكذلك الهجرة على المرأة من بلاد الكفّار واجبة وإن كان سفرها وحدها حرامًا، ونحوها. وقد خرّج الحنفيّة هذه الفروع على قاعدة إذا تعارض المانع والمقتضي قدّم المانع. ودليل قاعدة - إذا اجتمع الحلال والحرام غلّب الحرام - أنّ في تغليب الحرام تقليلاً للتّغيير في الأحكام، وبيانه أنّ المكلّف إذا انتفع بشيء قبل ورود الشّرع بما يحرّمه أو يبيحه فإنّه لا يعاقب بالانتفاع به لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. وقوله سبحانه: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} . فإذا ورد ما يفيد التّحريم فقد غيّر الأمر وهو عدم العقاب على الانتفاع، ثمّ إذا ورد ما يفيد الإباحة فقد نسخ ذلك المحرّم فيلزم هنا تغييران. وأمّا إذا جعلنا المبيح هو المتقدّم فيكون مؤكّداً للإباحة الأصليّة لا مغيّراً لها، فإذا جاء المحرّم كان ناسخًا للإباحة ومغيّرًا لها، فيلزم منه تغيير واحد ففيه تقليل للتّغيير. وهذا الدّليل يوافق الحنفيّة من أنّ الحلال شامل للمباح وللواجب. أمّا الشّافعيّة فقد استدلّوا لهذه القاعدة بأنّ ترجيح التّحريم أحبّ، لأنّ فيه ترك مباح لاجتناب محرّم وذلك أولى وأحوط. ومن أمثلة هذه القاعدة وتطبيقاتها: تعارض حديث: «لك من الحائض ما فوق الإزار» مع حديث: «اصنعوا كلّ شيء إلاّ النّكاح» فإنّ الأوّل يقتضي تحريم ما بين السّرّة والرّكبة، والثّاني يقتضي إباحة ما عدا الوطء فيرجّح التّحريم احتياطاً. وكذلك لو اشتبهت محرم بأجنبيّات محصورات لم تحلّ. وكذلك لو كانت الشّجرة بعضها في الحلّ وبعضها في الحرم حرم قطعها.وغيرها من الأمثلة. ويستثنى من هذه القاعدة صور منها: إذا رمى سهماً إلى طائر فجرحه ووقع على الأرض فمات فإنّه يحلّ، وإن أمكن إحالة الموت على الوقوع على الأرض، لأنّ ذلك لا بدّ منه فعفي عنه. ومنها ما ذكر السّيوطيّ من أنّ: معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا تحرم، ولكن تكره. ومنها: لو اعتلفت الشّاة علفاً حراماً لم يحرم لبنها ولحمها وإن كان تركه أورع. وغيرها من الأمثلة.
4 - يحكم بالحلّ لسببين: الأوّل: ذاتيّ، كالانتفاع بالبرّ والشّعير وسائر الأشياء المباحة. الثّاني: عرضيّ، كالبيع الصّحيح والإجارة والهبة وسائر الأسباب المبيحة. والحلال بوصفه القائم به قد يعرض له ما يقتضي تحريمه من الأسباب المحرّمة. أو يعرض له ما لا يوصف معه بالحلّ كالشّبه. ولهذا كان الحلال درجات أعلاها ما كان خالصًا من جميع الشّبه كالاغتراف من الأنهار العظام الخالية عن الاختصاص، وأدناها ما قربت درجته الأخيرة من الحرام المحض، كمال من لا كسب له إلاّ المكوس المحرّمة، وإن كان يحتمل أن يكون بعض ما في يده حصل له من جهة حلال. وينظر تفصيل ما تقدّم في الملحق الأصوليّ في المصطلحات (حرام، ومباح). وكما تقدّم جانب منه في مصطلح (تحليل، واشتباه).
1 - الحلف لغةً اليمين: وأصلها العقد بالعزم والنّيّة. قال أبو هلال العسكريّ: والحلف من قولك: سيف حليف أي: قاطع ماض. فإذا قلت: حلف باللّه، فكأنّك قلت: قطع المخاصمة باللّه. وقال ابن فارس: الحلف بمعنى اليمين أصله من الحلف بمعنى الملازمة. وذلك أنّ الإنسان يلزمه الثّبات على اليمين. واصطلاحاً: توكيد حكم بذكر معظّم على وجه مخصوص.
2 - التّحليف تكليف أحد الخصمين اليمين ويجري التّحليف للفصل في الخصومات وإنهاء النّزاع في الدّعاوى، وثبت بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: للمدّعى عليه: «احلف باللّه الّذي لا إله إلاّ هو، ما له عندك شيء». «وقوله صلى الله عليه وسلم للأشعث بن قيس: بيّنتك وإلاّ فيمينه».
3 - الحلف المنعقد هو القسم باللّه تعالى أو بصفاته، مثل: لا، ومقلّب القلوب، وبالّذي رفع سبعًا وبسط سبعاً، وهذا مصداقًا لقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}. وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير اللّه بقوله: «ألا إنّ اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً، فليحلف باللّه أو ليصمت» وزاد في رواية أخرى «فقال عمر: فواللّه ما حلفت بها منذ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عنها ذاكرًا ولا آثراً». (ر: أيمان - فقرة / 17، وإثبات - فقرة / 23، وإيلاء - فقرة / 1).
4 - الحقوق على ضربين: أحدهما: حقّ للّه تعالى. والثّاني: حقّ للعباد. وحقّ اللّه على قسمين: فالأوّل: الحدود ولا يجري التّحليف فيها، لأنّ المقصود من اليمين النّكول، وهو لا يعدو أن يكون بذلاً أو إقراراً فيه شبهة، والحدود لا بذل فيها ولا تقام بحجّة فيها شبهة. ولأنّه لو رجع عن إقراره قبل منه وخلّي سبيله من غير يمين فلأن لا يستحلف مع الإقرار أولى ولأنّه يستحبّ ستره، لقوله صلى الله عليه وسلم لهزال في قصّة ماعز: «لو سترته بثوبك لكان خيراً لك». الثّاني: الحقوق الماليّة كدعوى السّاعي الزّكاة على ربّ المال، لأنّ ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصّلاة، ولو ادّعى عليه كفّارة يمين أو ظهار أو نذر صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفي ذلك من غير يمين، لأنّه لا حقّ للمدّعي فيه ولا ولاية عليه، فإن تضمّنت الدّعوى حقّاً لآدميّ مثل سرقة يحلف المدّعى عليه لحقّ الآدميّ دون حقّ اللّه عزّ وجلّ، ويضمن. وحقوق العباد تنقسم إلى قسمين: أحدهما: ما هو مال أو المقصود منه مال، فهذا تشرع فيه اليمين بلا خلاف بين أهل العلم. فإذا لم تكن بيّنة للمدّعي حلف المدّعى عليه وبرئ، وقد ثبت هذا في قصّة الحضرميّ والكنديّ اللّذين اختلفا في الأرض. الثّاني: ما ليس بمال ولا المقصود منه مال كحدّ قذف، وقود، وما يطّلع عليه الرّجال غالبًا كنكاح، وطلاق، ورجعة، وعتق، وإسلام، وردّة، وجرح، وتعديل. فعند أبي حنيفة والمالكيّة لا يستحلف فيها لأنّ النّكول عند أبي حنيفة بذل، وهذه المسائل لا يصحّ فيها البذل، وعند الصّاحبين النّكول إقرار فيه شبهة، وعليه يجري التّحليف فيها عندهما. أمّا عند المالكيّة فكلّ دعوى لا تثبت إلاّ بعدلين لا يستحقّ فيها شيء إلاّ بشهادة رجلين عدلين إذ لا فائدة في ردّ اليمين أو إثباتها، لأنّه إن حلفها لا يثبت المدّعى به لتوقّف ثبوتها على العدلين إلاّ القسامة وجراح العمد، وفي بعضها خلاف وهي المسمّاة عندهم بأحكام تثبت في البدن ليست بمال ويطّلع عليها الرّجال غالباً. وعند الشّافعيّة، الحنابلة على أحد القولين وهو المتّبع عندهم، أنّه يجري التّحليف لأنّه عند الشّافعيّة الدّعاوى الّتي تثبت برجلين أو رجل وامرأتين تثبت برجل ويمين. واستدلّوا «بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بهما في الحقوق والأموال» ثمّ الأئمّة من بعده. والحنابلة على قولين: أحدهما: لا يستحلف المدّعى عليه ولا تعرض عليه اليمين قال أحمد - رحمه الله -: لم أسمع من مضى جوّزوا الأيمان إلاّ في الأموال والعروض خاصّةً كما سلف. الثّاني: يستحلف في الطّلاق والقصاص والقذف. وقال الخرقيّ: إذا قال ارتجعتك فقالت: انقضت عدّتي قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها. قال ابن قدامة: فيتخرّج من هذا أنّه يستحلف في كلّ حقّ لآدميّ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكنّ اليمين على المدّعى عليه». وهذا عامّ في كلّ مدّعًى عليه، وهو ظاهر في دعوى الدّماء بذكرها في الدّعوى مع عموم الأحاديث، ولأنّها دعوى صحيحة في حقّ لآدميّ، فجاز أن يحلف فيها المدّعى عليه، كدعوى المال.
5 - الجمهور على أنّ اليمين تفيد قطع الخصومة في الحال لا البراءة من الحقّ. والمالكيّة اعتدّوا بالحلف وقالوا: تكون اليمين كافيةً في إسقاط الخصومة وفي منع إقامة البيّنة بعد ذلك، إلاّ إذا كان للمدّعي عذر في عدم الإتيان بالبيّنة وذلك كنسيان حين تحليفه خصمه. وللتّفصيل (ر: إثبات - فقرة / 28).
6 - يحلف على البتّ في فعله، وكذا فعل غيره إن كان إثباتاً،وإن كان نفياً فعلى نفي العلم. وجملة الأمر أنّ الأيمان كلّها على البتّ والقطع إلاّ على نفي فعل الغير، فإنّها على نفي العلم. وعلى هذا أبو حنيفة ومالك والشّافعيّ. وقال الشّعبيّ والنّخعيّ: كلّها على العلم. وذكر ابن أبي موسى روايةً عن أحمد وذكر أحمد حديث الشّيبانيّ عن القاسم بن عبد الرّحمن عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تضطرّوا النّاس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون» ولأنّه لا يكلّف ما لا علم له به، وحمل ابن قدامة حديث القاسم بن عبد الرّحمن على اليمين على نفي فعل الغير. مثال البتّ: ادّعى عليه أنّه ضرب فلانًا واعتدى عليه، فيحلف على البتات لأنّه فعل النّفس. مثال العلم: ادّعى أحد دينًا على ميّت في مواجهة وارثه بسبب فيحلف الوارث على نفي العلم: واللّه لا أعلم أنّ أبي فعل ذلك لكونه فعل للغير. وتفرّد الحنفيّة بتقسيم الحلف إلى حلف على السّبب أو على الحاصل. والمقصود بالسّبب: وقوع سبب الحقّ المدّعى أو عدم وقوعه. والمقصود بالحاصل: بقاء العقد المثبت للحقّ أو عدم بقائه: أنّ العقد يحتمل الارتفاع كالنّكاح يرتفع بالطّلاق، والبيع بالإقالة. مثال الحلف على السّبب: دعوى عقد بيع موجب لتملّك عين والكفالة لاشتغال الذّمّة وتوجّه المطالبة، فهو يمين منصبّ على نفس السّبب المؤدّي إلى حصول مسبّبه هل هو واقع أو لا؟. والحلف على الحاصل: يكون في الأشياء الّتي تقع ثمّ قد ترتفع برافع كالنّكاح والطّلاق والغصب، فيحلف على الحاصل باللّه ما بينكما نكاح قائم، وما هي بائن منك الآن، وما يجب عليه ردّه. أي إلى الآن لم يزل حاصلاً باقياً أم لا. قال صاحب معين الحكّام: الاستحلاف على قسمين: أحدهما: على العقود الشّرعيّة، والآخر على الفعال الحسّيّة. أمّا الأوّل فهو أنّ القاضي يحلّفه على الحاصل بالعقد باللّه ما له قبلك ما ادّعى من الحقّ، ولا يحلّفه على السّبب وهو البيع والإجارة والكفالة ونحوها، وروي عن أبي يوسف يحلّفه على السّبب باللّه ما اشتريت، ولا استأجرت، ولا كفلت ونحوها، إلاّ أن يعرض للقاضي فيقول: كم من مشتر أو مستأجر يفسخ العقد فيحلّفه على الحاصل، لأنّ اليمين تجب على حسب الدّعوى ودفعه، والدّعوى وقع في العقد لا في الحاصل به. وأمّا القسم الثّاني وهو الاستحلاف على الأفعال الحسّيّة وهي نوعان: نوع يستحلف على الحاصل لا على السّبب كالغصب والسّرقة إن كان المغصوب والمسروق قائماً، يحلّفه باللّه ما هذا الثّوب لهذا ولا عليك تسليمه ولا تسليمه شيء منه إلى المدّعي، وإن كان مستهلكًا يستحلف على القيمة لا غير. وأمّا النّوع الثّاني وهو ما إذا ادّعى على رجل أنّه وضع على حائطه خشبةً، أو بنى عليه بناءً، أو أجرى على سطحه، أو في داره ميزابًا أو فتح عليه في حقّه باباً، أو رمى تراباً في أرضه أو ميتةً أو نحو ذلك، ممّا يجب على صاحبه نقله وأراد استحلافه على ذلك، فإنّه يحلّفه على السّبب باللّه ما فعلت هذا، لأنّه ليس في التّحليف هنا ضرر بالمدّعى عليه، إذ بعدما ثبت هذا الحقّ للمدّعي وهو استحقاق رفع هذه الأشياء عن أرضه، لا يتضرّر بسقوطه بسبب من الأسباب، فإنّه لو أذن له في الابتداء أن يضع الخشبة على حائطه أو يلقي الميتة في أرضه، كان ذلك إعارةً منه، فمتى بدا له كان له أن يطالبه برفعه، وإن باع منه ذلك لا يجوز، لأنّ هذا بيع الحقّ وبيع الحقّ لا يجوز. أ. هـ. أي فهذه الأفعال الحسّيّة كالأسباب الّتي لا ترتفع برافع نحو دعوى العبد المسلم العتق على مولاه، فالتّحليف على السّبب لا يضرّ المدّعى عليه.
7 - إذا حلف المدّعى عليه بطلب الخصم قبل أن يكلّفه الحاكم فلا تعتبر يمينه، ويلزم أن يحلف من قبل الحاكم مرّةً أخرى. والجمهور على أنّه لا يجوز للقاضي استحلاف المدّعى عليه إلاّ بعد طلب اليمين من المدّعي لأنّه حقّ له، فلا يستوفيه من غير إذنه. ولا يعتدّ بتحليف قاض قبل مطالبة المدّعي، لأنّها يمين قبل وقتها، للمدّعي أن يطالب بإعادتها. واستثنى الحنفيّة خمسة مواطن: الأوّل: إذا ادّعى أحد من التّركة حقًّا بالإجماع. الثّاني: إذا استحقّ أحد المال. الثّالث: لو أراد مشتر ردّ مبيع لعيبه. الرّابع: تحليف الحاكم الشّفيع عند الحكم له بالشّفعة بأنّه لم يبطل شفعته. والخامس: المرأة، إذا طلبت فرض نفقة على زوجها الغائب. (ر: إثبات - فقرة / 17 / 22).
8 - ذهب الجمهور " الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ اليمين على نيّة الحالف إذا كان مظلوماً، وإن كان ظالماً فعلى نيّة المستحلف، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «يمينك على ما يصدّقك به صاحبك». إذ المقصود هو التّرهيب وردع الحالف عن جحوده خوفاً من اليمين الغموس. وقال الغزاليّ: وينظر في اليمين إلى نيّة القاضي وعقيدته، فلا يصحّ تورية الحالف ولا قوله إن شاء اللّه بحيث لا يسمع القاضي. وأتى ابن قدامة بمثال للحالف مظلوماً وهي واقعة حصلت للصّحابيّ سويد بن حنظلة رضي الله عنه. قال سويد: «خرجنا نريد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدوّ له فتحرّج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنّه أخي. فخلّى سبيله، فأتينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: أنت أبرّهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم». قال ابن قدامة والحال الثّالثة: لم يكن ظالماً ولا مظلوماً قال: فظاهر كلام أحمد أنّه له تأويله وأورد عن أنس رضي الله عنه «أنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه احملني فقال: إنّي حاملك على ولد النّاقة فقال: يا رسول اللّه ما أصنع بولد النّاقة فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهل تلد الإبل إلاّ النّوق». وقال المالكيّة - عدا ابن القاسم -: اليمين على نيّة المستحلف، وقال ابن القاسم: هي على نيّة الحالف فينفعه الاستثناء فلا تلزمه كفّارة ولكن يحرم ذلك عليه. وانظر التّفصيل في بحث (أيمان ف / 153 فما بعدها). وقد توسّع ابن قدامة في ذلك فلينظر في موضعه.
1 - الحلف لغةً العهد، وقد حالف فلان فلاناً إذا عاهده وعاقده. فهو حليفه، وتحالفوا أي تعاهدوا، وفي حديث أنس: «حالف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري أي آخى بينهم». وقال ابن الأثير: أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التّناصر والتّساعد والاتّفاق، وقال ابن سيده: سمّي الحلف حلفًا لأنّه لا يعقد إلاّ بالحلف، أي يؤكّد بالأيمان.
أ - المؤاخاة والموالاة: 2 - قال القرطبيّ: معنى المؤاخاة أن يتعاقد الرّجلان على التّناصر والمواساة والتّوارث حتّى يصيرا كالأخوين نسباً، وقد يسمّى ذلك حلفاً. وإذا تحالفا على ذلك كان كلّ منهما مولىً للآخر بالموالاة (وانظر: ولاء). ب - المهادنة: 3 - المهادنة: المصالحة بعد الحرب. ج - الأمان: 4 - الأمان لغةً السّلامة، واصطلاحاً: رفع استباحة دم الحربيّ ورقّه وماله حين قتاله، أو العزم عليه مع استقراره تحت حكم الإسلام.
5 - كانت الأحلاف تعقد في الجاهليّة بين فرد وقبيلة، أو بين فرد وفرد، أو بين قبيلة وقبيلة. فممّا كان بين القبائل حلف المطيّبين من قريش. قال ابن إسحاق وغيره: وهم عبد مناف، وأسد، وزهرة، وتيم رهط أبي بكر رضي الله عنه. سمّوا بذلك لمّا أرادت بنو عبد مناف أخذ ما في يدي عبد الدّار من الحجابة والرّفادة واللّواء والسّقاية، وأبت بنو عبد الدّار، فأخرجت بنو عبد مناف جفنةً مملوءةً طيباً فوضعوها لأحلافهم المذكورين في المسجد الحرام عند الكعبة، ثمّ غمسوا أيديهم فيها وتعاقدوا ثمّ مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدًا لليمين فسمّوا المطيّبين. وتعاقدت بنو عبد الدّار وحلفاؤها وهم جمح وسهم ومخزوم وعديّ بن كعب رهط عمر بن الخطّاب رضي الله عنه على ما أرادوا من ذلك الأمر، فسمّوا الأحلاف. فكان يقال لأبي بكر أنّه " مطيّبيّ " ولعمر أنّه " أحلافيّ ". وذكر ابن إسحاق أيضاً أنّه كان في قريش حلف آخر هو حلف الفضول، وقد شهده رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بنفسه قبل البعثة، وكان سنّه إذ ذاك قريباً من عشرين عاماً، وقد قال فيه بعد ذلك: «لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت». زاد في بعض الرّوايات: «تحالفوا أن تردّ الفضول على أهلها، وألاّ يعزّ ظالم مظلوماً» ومعنى لأجبت أي لنصرت المظلوم إذا دعا به. والبطون الّتي تحالفت هذا الحلف من قريش هم بنو هاشم، وبنو المطّلب، وبنو أسد بن عبد العزّى، وبنو زهرة، وبنو تيم بن مرّة، ومن بني تيم عبد اللّه بن جدعان الّذي عقد الحلف في داره، تعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكّة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممّن دخلها من سائر النّاس إلاّ قاموا معه على من ظلمه حتّى تردّ عليه مظلمته. وأمّا بين الأفراد فقد كان أهل الجاهليّة يعاقد الرّجل منهم الآخر فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عنّي وأعقل عنك " فإذا قبل الآخر نفذ بينهما هذا التّحالف. وكان المتحالفان يتناصران في كلّ شيء، فيمنع الرّجل حليفه وإن كان ظالماً، ويقوم دونه، ويدفع عنه بكلّ ممكن، حتّى يمنع الحقوق وينتصر به الظّالم في الظّلم والفساد والعناد. والتّحالف بين الأفراد على نوعين: فقد يكون الالتزام من طرف واحد، بأن يلتجئ رجل قد ترك عشيرته، أو لا عشيرة له، إلى رجل ذي منعة فيحالفه ليحميه ويتحمّل عنه جرائره، دون التزام من قبل الضّعيف بالنّصرة أو العقل (الدّية)، وقد كان هذا في الجاهليّة واستمرّ في الإسلام، فكان الأعجميّ يوالي في العرب، وقد يكون الالتزام من الطّرفين بأن ينصر كلّ منهما الآخر ويرثه ويعقل عنه.
6 - لا يعرف خلاف بين الفقهاء في أنّ التّحالف بين أفراد المسلمين إذا كان على أن ينصر كلّ من الطّرفين الآخر على الخير والشّرّ، وعلى الحقّ والباطل، أو على أن يرث كلّ منهما الآخر دون ذوي قرابته، فإنّ ذلك الحلف يكون باطلاً، ووجه ذلك أنّه لا يجوز التّناصر على الباطل، ولا على ما حرّمه اللّه تعالى، لقول اللّه تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قالوا يا رسول اللّه، هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً، قال: تأخذ فوق يديه» قال الجصّاص: كان حلف الجاهليّة أن يعاقده فيقول: دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك، وكان في هذا الحلف أشياء قد حظرها الإسلام، وهو أنّه يشرط أن يحامي عنه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحقّ والباطل، وقد أبطلت الشّريعة هذا الحلف، وأوجبت معونة المظلوم على الظّالم حتّى ينتصف منه. وكذا ورد في الميراث الآيات الكريمة الّتي حدّدت نصيب كلّ وارث، وقد قال تعالى في آيات المواريث: {فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمَاً حَكِيماً} فمن جعل ميراثه لمن والاه وعاقده دون من جعل اللّه تعالى لهم الميراث، ناقض حكم اللّه تعالى بذلك، فبطل عقده، وحكم اللّه تعالى نافذ. 7- أمّا التّحالف على الخير والنّصرة على الحقّ وعلى العقل والتّوارث لمن لا وارث له. فقد ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في غزوة الفتح: «لا حلف في الإسلام وأيّما حلف كان في الجاهليّة لم يزده الإسلام إلاّ شدّةً» وفي رواية «ولكن تمسّكوا بحلف الجاهليّة» وفي رواية «لا حلف في الإسلام وحلف الجاهليّة مشدود» وفي رواية الطّبريّ: «فوا بحلف فإنّه لا يزيده الإسلام إلاّ شدّةً ولا تحدثوا حلفاً في الإسلام». وقد اختلف العلماء في ذلك. 8- أ - فذهب الحنفيّة إلى أنّه لا بأس أن يحالف مسلم مسلماً حتّى بعد ورود هذا الحديث على العقل والميراث - ولا يرث إلاّ على الوجه الّذي يأتي بيانه - وعلى النّصرة والنّصيحة والرّفادة وغير ذلك من أنواع التّعاون. وقالوا إنّ المراد بالحديث المذكور: نفي الحلف على الأمور الّتي كانوا يتعاقدون عليها في الجاهليّة وحظرها الإسلام، وهي أن ينصره على الحقّ والباطل ويرثه دون ذوي رحمه واستدلّوا لذلك بالأدلّة المتقدّمة وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم وابن أختهم منهم وحليفهم منهم». وقالوا: إنّ ذلك مذهب عمر، وعليّ، وابن مسعود رضي الله عنهم. ثمّ عند الحنفيّة قد تكون الموالاة من الجانبين أو من جانب واحد، ولو والى صبيّ عاقل بإذن وليّه صحّ، أو والى العبد بإذن سيّده آخر يصحّ كذلك، ويكون وكيلاً عن سيّده بعقد الموالاة، ولمن والى رجلاً أن ينقل ولاءه إلى غيره إن لم يعقل عنه أو عن ولده، ولو عقل عنه بيت المال فولاؤه للمسلمين فلا ينتقل عن ولائهم إلى ولاء خاصّ، ولا بدّ في عقد الموالاة أن يشترط العقل - أي تحمّل الدّية - والإرث. وفي شرح السّراجيّة: بل مجرّد العقد كاف بأن يقول واليتك، ويقول الآخر قبلت، فينعقد العقد ويرث القابل، وهذا إجمال ينظر تفصيله في مصطلح: (ولاء). وقد أورد الطّحاويّ في " شروطه " صيغةً لعقد الموالاة مستوفيةً للشّروط المعتبرة فيه عند الحنفيّة. 9- ب - وذهب جمهور الفقهاء إلى الأخذ بظاهر هذا الحديث من أنّ أحلاف الجاهليّة يستمرّ التّناصر بها حتّى بعد هذا الحديث، لكن لا يكون إلاّ تناصراً على الحقّ والتّعاون على الخير، ولا تقتضي ميراثاً لكون التّوارث بها منسوخاً، لكن الأحلاف الّتي عقدت في الإسلام، أو تعقد من بعد ورود الحديث منقوضة، لكون هذا الحديث ناسخاً لإجازة التّحالف الّتي عمل بها في أوّل الإسلام فقد أمروا أن لا ينشئوا بعد ذلك معاقدةً كما عبّر ابن كثير. ووجهه أنّ الإسلام وحّد بين المسلمين، فهو بمعنى تحالف شامل لكلّ المسلمين يقتضي التّناصر والتّعاون بينهم على من قصد بعضهم بظلم، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}. وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً». وقوله: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه». وقوله: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره». وقوله: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمّتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم». فمن كان قائماً بواجب الإيمان كان أخًا لكلّ مؤمن، ووجب على كلّ مؤمن أن يقوم بحقوقه، وإن لم يجر بينهما عقد خاصّ، فإنّ اللّه ورسوله قد عقدا الأخوّة بينهما بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «وددت أنّي قد رأيت إخواني» ومن لم يكن خارجاً عن حقوق الإيمان وجب أن يعامل بموجب ذلك، فيحمد على حسناته ويوالى عليها وينهى عن سيّئاته ويعاقب عليها. كفسّاق أهل الملّة إذ هم مستحقّون للثّواب والعقاب، وللموالاة والمعاداة. قالوا: وأمّا استمرار العمل بأحلاف الجاهليّة في التّناصر فيؤيّده في الحديث السّابق ذكره أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفاً ما أحبّ أنّ لي به حمر النّعم ولو أدعى به في الإسلام لأجبت» أي لنصرت المستنصر به، وفي رواية «شهدت حلف المطيّبين وأنا غلام مع عمومتي فما أحبّ أنّ لي حمر النّعم وأنّي أنكثه». واختلف أصحاب هذا القول في الوقت الّذي هو الحدّ الفاصل بين ما هو من أحلاف الجاهليّة، فيبطل منه ما يخالف حكم الإسلام، ويبقى ما عداه على حاله، فيستمرّ حكمه في الإسلام، وبين ما هو من أحلاف الإسلام فينقض. فقال ابن عبّاس: ما كان قبل نزول الآية - يعني {وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} - فهو جاهليّ، وما بعدها إسلاميّ، وعن عليّ: ما كان قبل نزول {لإيلافِ قُرَيشٍ} جاهليّ، وما بعدها إسلاميّ، وعن عثمان: ما كان قبل الهجرة فهو جاهليّ وما بعدها إسلاميّ. وعن عمر: كلّ حلف كان قبل الحديبية فهو مشدود وكلّ حلف بعدها منقوض. قال ابن حجر: وأظنّ قول عمر أقواها. أي لما ثبت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم آخى بينهم في المدينة وذلك ينفي القولين الثّاني والثّالث. 10 - وذهب آخرون إلى أنّه لا بأس أن يعقد حلف بين مسلم ومسلم على التّناصر على الحقّ والنّصيحة والتّعاون على الخير حتّى وإن كان ذلك بعد ورود الحديث المتقدّم، ولا توارث به. قال النّوويّ: المؤاخاة في الإسلام، والمحالفة على طاعة اللّه، والتّناصر في الدّين، والتّعاون على البرّ والتّقوى وإقامة الحقّ، هذا باق لم ينسخ، قال وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث: «وأيّما حلف كان في الجاهليّة لم يزده الإسلام إلاّ شدّةً» وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام» فالمراد به حلف التّوارث والحلف على ما منع الشّرع منه.
11 - لا تختلف كلمة المفسّرين وغيرهم من العلماء في أنّ التّوارث بالحلف كان معمولاً به أوّلاً في الإسلام، وقد آخى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فكان لكلّ رجل من المهاجرين أخ من الأنصار، وتوارثوا بذلك، فكان الأنصاريّ إذا مات يرثه أخوه المهاجريّ، وقد ورد في ذلك أحاديث منها: 1 - ما روى البخاريّ والطّبريّ عن ابن عبّاس قال في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} قال: ورثةً {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ}. قال: كان المهاجرون لمّا قدموا على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورث المهاجر الأنصاريّ دون ذوي رحمه للإخوة الّتي آخى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينهم، فلمّا نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت. ثمّ قال {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلاّ النّصر والرّفادة والنّصيحة، وقد ذهب الميراث. ونقل الطّبريّ عن الحسن وعكرمة " كان الرّجل يحالف الرّجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما الآخر، فنسخ ذلك " وعاقد أبو بكر رضي الله عنه مولًى فورثه. ولا تختلف كلمة العلماء في أنّ التّوارث على هذه الصّفة منسوخ، واختلفوا في النّاسخ، فقال بعضهم: النّاسخ قوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ} وقيل: بل الّتي في آخر الأنفال. وقيل: بل قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} أي يرثون كلّ المال، وقوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} أي من النّصيحة والنّصر، دون الميراث، وهذا قول الطّبريّ. وقيل: حصل النّسخ على مرحلتين، فنسخ الأوّل بقوله تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} أي ورثةً يرثون، والمولى هنا هو القريب كالأخ وابن العمّ، ممّا ترك الوالدان والأقربون، والّذين عقدت أيمانكم. وقرئ: (عاقدت أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) فقد نسخت انفراد الحليف لكلّ المال، وجمعت بين الفريقين، فجعلت المال للأقارب، وأمرت بإعطاء الحليف نصيبًا، فكانوا يعطونه السّدس، قوله: {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي قد شهد معاقدتكم إيّاهم واللّه يحبّ الوفاء. قاله القرطبيّ. قال قتادة: كان الرّجل يعاقد الرّجل في الجاهليّة، فلمّا جاء الإسلام أمروا أن يؤتوهم نصيبهم وهو السّدس، ثمّ نسخ بالميراث، فقال: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}. قال ابن حجر: وروي من طرق شتّى عن جماعة من العلماء مثل ذلك، وهذا هو المعتمد. قال: وينزّل حديث ابن عبّاس على هذا. ثمّ نسخ هذا بآية سورة الأحزاب. وخصّ الميراث بالعصبة، وبقي للمعاقد النّصر والإرفاد وغيرهما. قال وعلى هذا يتنزّل بقيّة الآثار، لكنّ ابن عبّاس لم يتعرّض لذكر النّاسخ الثّاني.
12 - اختلف الفقهاء في إرث الحليف من حليفه فذهب الجمهور " المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة " إلى أنّ ميراث الحليف منسوخ أصلاً، فلا توارث بالحلف، وإنّما الميراث برحم أو نكاح أو ولاء. فإن لم يكن أحد من هؤلاء فتركته للمسلمين أي فتكون لبيت المال. وذهب الحنفيّة والحكم وحمّاد وهو رواية عن أحمد: إلى أنّ إرث الحليف باق، قالوا: يرث الحليف كلّ المال، لكن بعد سائر الورثة، فإن لم يكن له قريب ولا وارث بنكاح ولا مولى عتاقة فميراثه لحليفه، فإن لم يكن فلبيت المال. ونقل الجصّاص نحو ذلك عن عمر بن الخطّاب وابن مسعود رضي الله عنهما وعن الحسن البصريّ وإبراهيم والزّهريّ. واستدلّوا على ذلك بأمور منها: أ - قوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فإنّ " أولى " صيغة تفضيل تثبت أصل الميراث للحليف، لكن تجعل القريب أولى منه. قال الجصّاص: جعلت الآية ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة، فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات، وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء، على الأصل الّذي كان عليه، فمتى فقدوا وجب ميراث الحليف بقضيّة الآية، إذ كانت إنّما نقلت ما كان للحلفاء إلى ذوي الأرحام إذا وجدوا، فإذا لم يوجدوا فليس في القرآن ولا في السّنّة ما يوجب نسخها . ا. هـ. ب - روى مسلم من حديث جابر بن عبد اللّه أنّه قال: «كتب النّبيّ صلى الله عليه وسلم على كلّ بطن عقوله. ثمّ كتب: أنّه لا يحلّ لمسلم أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه». فأجازت أن يتحوّل الرّجل عن موالاة قوم إلى موالاة غيرهم بإذنهم، فهذا في مولى التّعاقد، لأنّ ولاء العتاقة لا يتحوّل، لما في الحديث: «الولاء لحمة كلحمة النّسب». ج - ما روى تميم الدّاريّ أنّه قال: «سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ما السّنّة في الرّجل من أهل الشّرك يسلم على يدي رجل من المسلمين؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: هو أولى النّاس بمحياه ومماته» يعني محياه في تحمّل العقل عنه ومماته في الإرث عنه ولمعرفة كيفيّة التّوارث بالحلف ينظر مصطلح (إرث). د - ما روي أنّ معاوية رضي الله عنه كان قد عاقد رجلاً يسمّى زيد بن الحتّات، فمات فحاز معاوية رضي الله عنه ميراثه. هـ - واستدلّوا بالقياس على الوصيّة لغير وارث، قالوا: إن وصّى لغير وارث بجميع ماله، فمات ولم يكن له وارث، جازت الوصيّة، فكذا هذا. وانظر لتمام القول في حكم التّوارث بالحلف مصطلح (إرث / 52).
13 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّ للحليف تزويج المرأة فهو أحد أوليائها. لكن ترتيبه في ذلك بعد جميع العصبات وذوي الأرحام، وهو أولى من القاضي والسّلطان. وقال محمّد بن الحسن: لا ولاية في التّزويج لذوي الأرحام ولا لمولى الموالاة وهو الحليف. واختلف النّقل عن أبي يوسف فقيل: قوله كقول أبي حنيفة، وقيل: كقول محمّد. وليس للحليف عند غير الحنفيّة في ولاية التّزويج مدخل. وقال الحنفيّة في أولويّة الصّلاة على الميّت: إنّ الأولياء فيها على التّرتيب المذكور في النّكاح، وهذا يقتضي أنّ للحليف ولايةً فيها على ما ذكر في النّكاح من التّرتيب. وقال الجمهور: لا عقل بالحلف. وأمّا الحنفيّة فقد قالوا: إنّ الرّجل وعشيرته يعقلون عن مولاه بالولاء، وإذا عقل عنه لزمه الولاء فلا ينتقل عنه بعد إلاّ برضاه. ولزوم العقل عن مولى الموالاة منقول أيضًا عن مجاهد. (وانظر: عاقلة).
14 - يرد هنا الخلاف المتقدّم في محالفة الفرد للفرد، غير أن لا توارث هنا ولا تعاقل، وإنّما يثبت بالحلف عند من أجازه مجرّد التّناصر على الحقّ ودفع الظّلم. ويستدلّ المجيزون لمثل هذا التّحالف بما ورد في حديث أنس عند البخاريّ: «حالف النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في داري مرّتين». وقالوا: إنّ قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم «لا حلف في الإسلام» المراد به ما كان على طريقة أهل الجاهليّة من الإعانة بالحلف في الحقّ والباطل. قال ابن الأثير: أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التّساعد والتّعاضد والاتّفاق، فما كان منه في الجاهليّة على الفتن والقتال والغارات، فذلك الّذي ورد النّهي عنه في الإسلام، وما كان منه في الجاهليّة على نصر المظلوم وصلة الأرحام، كحلف المطيّبين وما جرى مجراه فذلك الّذي قال فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «وأيّما حلف كان في الجاهليّة لم يزده الإسلام إلاّ شدّةً» يريد: من المعاقدة على الخير ونصرة الحقّ. وبذلك يجتمع الحديثان. وهذا هو الحلف الّذي يقتضيه الإسلام. وتقدّم النّقل عن النّوويّ بمثل ذلك (ف /10). وأمّا الّذين خالفوا في جواز ذلك وهم الأكثرون فقد احتجّوا بظاهر الحديث «لا حلف في الإسلام» وبأنّ الإسلام جعل المسلمين يدًا واحدةً وأوجب على كلّ مسلم نصرة أخيه المسلم، والقيام على الباغي حتّى يرجع إلى الحقّ، كما تقدّم توجيهه عن ابن تيميّة (ف / 9).
|